الجمعة، 12 مارس 2010

آدم و حواء



حــــــ آدم ــــــواء
________

بعد عناء عام كامل أقضيه - و أنا الكاتبة الأصغر فى أتحاد الكتاب المصرين - أهرع للسفر إلى مدينتى :مدينة الاسكندرية . هوائها يشكل جزء كبير من أبداعى القصصى و الروائى . حين أترك سيارتى فى المكان المخصص للركن أعلى كوبرى أستانلى أنبهر بإتساع سطح البحر و لكم أود أن أصير جزء منه ، أسمع الموجة تلطم الاخرة حتى لا تسبقها و أشعر بأندمجهما و تلاشيهما على الشاطئ. هذة المرة فضلت أن أستقل القطار فقد مللت قيادة سيارتى على الطريق الزراعى الذى أفضله دوما عن الطريق الصحراوى . كانت هذة المرة مختلفة بالنسبة لى فكنت أبحث عن التجديد و التغيير ربما كنت أود أن أتمتع بروح المغامرة و أرجع لسن العشرين ، و لكن ها أنا فى الخامسة و الثلاثين ولا أفكر سوى فى كتابتى و حياتى و حياة من أحبهم ...لكنى أحتاج الان لبعض التحررمن قيودى تلك أو لعل الاسم المقبول لها مسؤلياتى ...

وصلت لمحطة مصر فى وقت متأخر بالنسبة لى لكنى لحقت القطار قبل دقائق و قد بداء الان بالتحرك و مازلت أبحث عن المقعد المخصص لى ،وجدته بمساعدة المختص و جسلت إلى جوار زوجان ، كل منهما منشغل بتفحص بعض البطاقات و أسمع ضحكات خافتة ...تنظر إلى المرأة و كأنها تراقبنى هل أتابعهما أم أتجاهل تصرفاتهما و للحق كنت أتابعهما و كيف لا و أنا مشهورة بالفضول الذى يدفعنى إلى خلط الشخصيات الواقعية بحياة لا واقعية فى بعض كتاباتى .و ينظر إليها الزوج ثم يستدر لى و كأنه يتابع هل تظن أنى معجبة به و لعل ذلك ما جعلنى أبتسم فى وجهه لمجرد الفكرة و ليس لأستشيطها غيظا ؛هكذا بعض النساء تحب أن تثير غيرة الاخرى لتقع فريسة سهلة للغيرة و الشك لكنه تصرف بذكاء و عرفانى بنفسهما : آدم و حواء.

آدم و حواء هما أبطال لبعض العروض على خشبة المسرح التجريدى و لهما عدة عروض منها ألف ليلة وليلة ، رقص العنكبوت و ألوان الربيع...و أخريات من الروائع الكلاسيكية. كان بالفعل ثنائى مميز فنيا ، وعلى الصعيد الشخصى كانت تربطها علاقة شخصية قوية .؛كانا مؤمنان بالفن التجريدى و يرانه هروب من الواقعية الملموسة للدخول إلى واقعية عقلية أكثر وعورة وأكثر تمحيصاً للمفاهيم الفلسفية للوجود،
سرعان ما بدأت أعرفهما بنفسى . أخذا حدثانى عن زيارتهما لمصر و كيف أن فنهما إعتلى مسرح الطائف بالمغرب و لقى حفاوة و أعجب الجمهور ، لذا قاما بزيارة منسقة مع المركز الثقافى المغربى ووزارة الثقافة المصرية حيث سيعرضا مقطتفات من عدة مسرحيات لهما و ذلك داخل حديقة مكتبة الاسكندرية . هنأتهما على النجاح و تمنيت لهم التوفيق . نظرت حواء لآدم فأومى برأسه فوجدتها تخرج بطاقة دعوة للحفل تهدينى إيها . شكرتها كثيرا و قلت أنى لن أفوت مثل تلك التجربة الجديدة ...

سعدت حواء كثيرا بحديثنا حول سيكولوجية الرجل الشرقى و ظل آدم يبتسم من حين لاخر رغم أن له رأى مخالف لنا فيما إتفقنا نحن النسوة ثم وجه آدم حديثه إلى زوجته و إستدار إلى "ما رأيك أن تأتى قبل الحفل و ترى الترتيبات ...ستسعدنا حقا زيارتك "
ظهرت إبتسامتى الطفولية التى غطتها خطوط العمر الدقيقة و أبديت قبولى للعرض و أنى سأكون حاضرة . و ها قد و صلنا سريعا إلى الاسكندرية فودعتهما بحرارة و تبادلنا أرقام الهواتف ...

و ها قد عادت نفسى القديمة التى أستبدلتها منذ زمن بأخرى لا تعرف المرح و لا يشغل بالها سوى العمل و النجاح ...أخذت حقيبتى الصغيرة و فيما أمر بأحدى محال الملابس تخيرت لتلك المناسبة الفريدة ثوبا أظنه يلائمنى ؛ سارعت للمشى فى شوارع الاسكندرية بعضها جميل و مزخرف بنقوش قديمة و لكنها شوارع ضيقة لا تلاقى نفس الاهتمام بالشوارع الكبرى القريبة من الكورنيش و المناطق التى تمتلئ بالمصيفين ، لكننا فى الشتاء و ها هى الشوارع مكسوة بقطرات الامطار على الجدران و أرى السيدات تنتزع الملابس عن الاحبال ،و لكنى لا أجرى فأعود إلى منزل صباى : ذلك المنزل العتيق الذى و رثنه أنا و أخواتى عن جدنا و منه بعده والدانا -رحمهما الله. حين وصلت أعتاب البيت و رأيت الاقفال الموصدة ، أحسست و كأنها حالتى حين أغادر هذا المكان و هذة المدينة لم أنسى بالتأكيد شراء بعض أحتياجاتى للإقامة و بدأت بهمة تنظيف المكان و فتح النوافذ رغم برودة الجو .فى المساء هاتفت أخواتى و أطمئنيت عليهن و على أسرهن ، و عدت بذكرياتى لحياتى و لهوى ، فتذكرت الفتايات و شقواتهن و كيف كنا (أسكندرنيات على حق) و أنها الفترة الاجمل فى حياتى بأسرها ... ذلك قبل أن تنتقل أسرتى لحيث يعمل والدى فى المدنية الصاخبة . أشفقت على نفسى من الوحدة فنزلت أستنشق الهواء . قادتنى قدماى إلى المترو القديم و ركبته و نزلت عند الانفوشى و حلقة السمك التى تعلن عن جو الاسكندرية الآخاذ، عن يسارى أجد مراكب الصيد بعضها هالك و لا ينفع و القليل منها يستخدمه الصيادون طلبا للرزق ...أسرعت خطاى حتى زورت متحف البرمائيات و لان الوقت كان متأخرا غُلقت أبواب القلعة فلم أدخلها و أكتفيت بمشاهدة البحر من على صخرة عالية قليلا بعد أن أحاط السياج منطقة المصادات القديمة . حين كنت أتى إلى الاسكندرية و عمرى عشرين عام أو أكبر بقليل كنت أقفز على تلك المصدات و أسمع الحارس ينادى بأعلى صوته - أرجعى ممنوع - لكنى أعتادت أن أرفض الإنقياد و أظل واقفة تداعبنى النسمات و أتحدى البحر و اقفة حيث لا تطلنى الامواج...

و بعد يوم لا أكثر حان ميعادى مع حواء و آدم ، أرتديت الثوب و كأنه ثوب العيد الذى يشتريه لى والدى و حقا كنت خائفة أن يحدث شيئا فلا أظهر بكامل رونقى و جدتنى أتخير ثوبا كالفراشة ــ فألوان الفراشة تذهلنى ــ و أرتديت معطفى فوقه. أستوقفت سيارة أجرة لأصل إلى المكتبة . و ذهبت فوجدت الامن يسمح لى بدخول و أردكت أن الزوجان صديقاى قد أعلما الامن بدعوتهما لى حتى لا أواجه أى عراقيل فى الدخول حيث ترى الوجه بدون زينة خلف الستائر الحمراء ، أرى كثير من المريا مشهد يشبه خلايا النحل . أستعلمت عن مكان وجود الزوجان فأرشدتنى إليهما إحدى العاملات، أستقبلانى بكل ترحيب و حب ...و أحببت ذلك الشعور كثيرا و تمنيت لهما التوفيق وأنى أفضل مشاهدتهما من خلف الكواليس و ليس حيث يشاهدهم الحضور. لم يمانعا بل حبذا الفكرة ؛ و جدتنى لست الوحيدة التى تشاهد العرض من الكواليس و أنما العاملين و كل من ساهم فى العرض خوفا من حدوث أى مشكلة و كذلك لانه حقا ممتع لا تنظر بسطحية المشاهد و أنما تقدر الجهد المبذول فلا تنسى أنهما كيانان حيان لهما حياتهما و يقوما بما يمتع المشاهد ...لكن على الكرسى أنت فقط تشاهد لا تفكر سوى بما تشاهده ربما المشهد و ربما ملابس البطل و البطلة إلى أخره ...


بداء العرض و كان ضوئيا و صوتيا و حركيا و كلها تحدث عالما خياليا لكل منا طريقة لفهمه و إدراكه ...

الاضاءة تسلط أشعتها على أجسادهما التى تتحرك فى تناغم إيحائى لتمثيل أحد مشاهد مسرحيتهما "رقص العنكبوت"...
البداية: يأتى آدم و ذراعيه مضمومتان إلى صدره و حين يقترب من حواء يبسط زراعيه فينفتحان و كأن زهرة ما قد فتحت أورقها للندى،و ها هى حواء تحوم حول آدم كى تتأكد أنه هو الذكر المرغوب ، لقد جذبها إليه و ها هى ترى استعراضا لقوته أمام خيوطها فتمسك طرف الخيط جيدا و تدور حوله فى خطى بطيئة و كلما إقتربت تظاهر العنكبوت بالآلم وإلى أن لا يفرق بينهما سوى خطوة واحدة فيسقط أمامها صريعا فتقترب فى لهفة فتجده متظاهرا بالموت حتى يفجأها بهدية الزواج فى فمه. و بعدها تصبح العنكبوتة أسيرة هذا العنكبوت ، و بعدها بلحظات من الزهو ينطلق خارجا من نسيجها قافذا خوفا من أن تناله فلا ينجى بحياته من إفتراسها ....

يصفق الحضور لبراعة أداء البطلان و اندماجهما فى العرض ينحنياء أمام التصفيق تحية للحضور ...
تقفل الستائر الحمراء على هذا المشهد و يستعدا النجمان لمشهد أخر لم أرد أن أقطع تركيزهما فى العمل لان وقتهما محسوبا جيدا ، سأجعل الاعجاب و التهنئة بعد أنتهاء العرض ...

تعلو وجه آدم تعابير الصرامة و الجلد و يتحرك برشاقة و بإستقامة الجندى و هو ممسك بفتاة تعرفها من سيماها بالتمرد و ها هو يقرب كفه من شعرها الاشعث، ثم هى تبعد رأسها عنه ، فيلحقها بصفعة على وجهها ... فتزيد عنادا . و تلين حين تراه يأتى لها بكوب الماء فيروى ظمأها ، هنا يرفع رأسها كى يرى عينها التى تشع تحدى و قوة و كيف أنها تؤسر الجنود جميعا و هم يلهثو حتى تنظر لهم . تقف كارمن وهى مطمئنة أنه لن يأذيها . فقد سُحر بجمالها و ظلت تقترب أكثر فأكثر حتى دنت منه و هنا سمع صوت رأيسه يعلو صوته بالنداء "خوسيه..نافار أين أنت أيها الابله؟!" . تمسك كارمن فى ساقه فتستميله بنظرتها فيقول سأعود لكى و بعدها يتصدر آدم الساحة و حواء خلفه ،من ثم يعرضا كيف قام خوسيه بتهريب كارمن الغجرية و غرامه الابدى فى قلبه رغم قوته و صرامته إلا إنه ضعيف امامها وهى لا تقبل الضعف . و يجسو على قدمه يرجوها الزواج فهى لن تكون لغيره وهى تقول انا ملك نفسى لست ملكك و لست ملك لأى رجل ، فيتوسلها ثانية" كونى لى يا كارمن" . فتبعده عنها و تتركه وراءها ، فيطلب منها قبلة الوداع فتعود نحوه منتصرة ترى الضحية وهويتوسل الدواء ، و حين تلتصق به يفاجئها بطعنة فى قلبها يردد "حتى أطهر قلبك من الذنوب الحب "...

هك كان المشهد الختامى لمسرحيتهما كارمن التى ألفها الفرنسى بروسبير ميريميه،تُغلق الستائر مرة أخرى على فصل من فصول حياة آدم وحواء معا و لكن سرعان ما يلحقها المشهد الاخير ...

يخرج آدم و يتوسط المسرح و تتبعه حلقة من الضواء و تستقر عليه و كأنه يشكو من جرح غائر فى القلب ، بعد أن مد يديه إلى السماء قبضها ثانية ،و أدار ظهره إلى الجمهور و يرفع يده مره أخرى ؛ تخرج الراقصات تلتف من حوله و يرقصن رقصة الالم ، ثم تسقط الواحدة تلو الاخرى . تخرج حواء و تمشى بخط منحنى بين أجساد النسوة الممدة على المسرح ، ثم تقف امامه فى ثبات و تمد زراعها حتى تلامس كتفه ،و يميلا رأسهما معا ، ثم يمد يده و يضعها موضع كفها و يمسك بها و يلقيها إلى الارض بشموخ ذكورى يحمل لغو الانتقام . تميل حواء و تلتف أمامه فيشفق عليها و يتركها ، فتبتعد مسرعة خارج دائرة الموت و تدور فى دائرة أوسع ثم تقف و تجرى نحوه بسرعة ، فتتلقفها زراعيه و يحتضنها و تتسع حلقة الضواء من حولهما فتقوم الراقصات و تلف شرائط حول شهريار من ثم بعد أن تحكم قبضتها عليه و يجثو على ركبتيه يقوم و يقف و يبسط زراعيه للسماء فتدور الراقصات فى الاتجاه المعاكس و تنفرج من حوله العقد ... و يتحرر أخيرا و يعود لأحضان حواء .

كان هذا هو المشهد الختامى لما قدمه الزوجان بحديقة مكتبة الاسكندرية الكل يصفق من خلف الكواليس و الحضور و ينحنى النجمان للحضور تحية وكلاهما ممسكا بيد الاخر ... و حين إسقبلتهما لكم بلغت بهما السعادة بما حققاه من نجاح فى هذا اليوم ...و أنا أيضا سعيدة ليس لانى شاهدت عرضا بديعا راقيا و أنٍما لانى أحسست بمعنى جديدا للحياة ...فرحت كثيرا بعلاقتهما معا و فرحتهما المقسمة بينهما . قلت هكذا أنت آدم و كذلك أنتى حواء ...

تمت
Friday, November 21, 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق